يوحنا 12 - تفسير إنجيل يوحنا
عشاء في بيت لحم الجزء(2)للقمص تادرس يعقوب ملطي
* محبة المال أمر مروع، فإنها تفسد الأعين والآذان، وتجعل البشر أردأ من الوحوش المفترسة، فلا تعطي للإنسان أن يضع في اعتباره ضميره ولا الصداقة ولا الزمالة ولا خلاص نفسه، وإنما تسحبه من هذا كله، كسيدة عنيفة تستعبد من تأسرهم...
لقد جعلت جيحزي أبرص بدلًا من كونه تلميذًا ونبيًا، وأهلكت حنانيا (وسفيرة) معه، وجعلت يهوذا خائنًا.
محبة المال أفسدت قادة اليهود... جبلت ربوات الحروب، وملأت الطرق بالدماء، والمدن بالنحيب والمراثي[1259].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فقال يسوع:
اتركوها، إنها ليوم تكفيني قد حفظته". [7]
بينما دانها يهوذا حاسبًا أنها تصرفت بغير حكمةٍ، وبددت المال فيما لا ينفع، وكان يجب تقديمه للفقراء، إذا بالسيد المسيح يعلن أنها قامت بعملٍ روحي نبوي فائق، فقد تنبأت عن تكفينه. خلال حبها تلامست مع آلام السيد المسيح وموته ودفنه، وبتصرفها أعلنت عن رائحة الخلاص الذكية.
لم نسمع قط أن أنسانًا يُكفن، ويُدهن جسده للتكفين، وهو بعد حيّ، أما السيد المسيح فحسب هذا الطيب تكفينًا لجسده الذي لن يرى فسادًا. لقد سلم جسده المبذول طعامًا روحيًا عند تأسيسه سرّ الأفخارستيا في خميس العهد، والآن إذ بذل جسده بإرادته يعلن عن تكفينه. هكذا يؤكد السيد إرادته المقدسة الحرة في قبول الموت والدفن من أجل العالم ليهبهم قوة قيامته وبهجتها.
* قول السيد المسيح عن مريم "اتركوها، إنها ليوم تكفيني قد حفظته" ذكر الدافع لما فعلته المرأة.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* انظروا يا اخوة، فإنه لم يقل له: "إنك تقول هذا من أجل لصوصيتك". لقد عرفه أنه لص. ومع هذا لم يخَوِّنه بل بالأحرى احتمله، مقدمًا لنا مثالًا للصبر في احتمال الأشرار في الكنيسة[1260].
القديس أغسطينوس
"لأن الفقراء معكم في كل حين،
وأما أنا فلست معكم في كل حين". [8]
حمل هذا القول إشارة خفية للعملين، فمن جهة عمل يهوذا المختفي وراء تظاهره بحب الفقراء بينما يقوم بتسليم سيده للموت في خيانة بشعة، والثاني عمل مريم الرائع حيث تلقفت هذا الجسد المُسلم للموت لتكرمه بأغلى ما لديها، الطيب الكثير الثمن. إنه يوبخ يهوذا سرًا، لأنه يدعي حب الفقراء، ويكرم مريم، لأنها وجدت فرصة لا تتكرر "لست معكم في كل حين".
لقد كفنت مريم جسد مسيحها وهو حيّ، فنالت مديحًا من فم السيد نفسه. كفن نيقوديموس ويوسف الرامي جسد السيد بعد موته، فنالوا كرامة لكنها لا تقارن بالكرامة التي نالتها مريم. هي قدمت رطلًا من الطيب وهما قدما مائة رطل، لكن التقدمة الأولى للجسد الحي فاقت كثيرًا التقدمة الثانية.
مريم لا تزال تدعونا أن نطيب جسد المسيح الحي في أعضائه الفقراء والمساكين والمتألمين والمطرودين والذين ليس لهم من يسأل عنهم، فقد وعدنا الله: "لأنه لا تفقد الفقراء من الأرض، لذلك أنا أوصيك قائلًا: افتح يديك لأخيك المسكين والفقير في أرضك" (تث ١٥: ١١). ويدعونا نيقوديموس ويوسف الرامي أن نطيب جسده في الأعضاء التي رحلت، أي الشهداء والقديسين.
لا يمكن أن نمارس عملًا على حساب الآخر، إذ حبنا للفقراء يتناغم مع حبنا للقديسين الذين لا يزالوا أحياء يمارسون الحب لله كما لكل البشرية بالصلاة والشكر الدائم.
* أراد المسيح أن يحد من شره المتزايد، مستخدمًا تواضعًا عظيمًا نحوه. لذلك لم يذّكره بالسرقة مع أنه يعرفها، وهكذا وضع عبارة تحجز رغبته الشريرة، وتنزع عنه كل دفاع عن نفسه[1261].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* بخصوص حضوره الإلهي معنا، فالمسيح حاضر على الدوام، وبخصوص حضوره في الجسد، بحق قال لتلاميذه: "لست معكم في كل حين" [8].
القديس أغسطينوس
"فعلم جمع كثير من اليهودأنه هناك،
فجاءوا ليس لأجل يسوع فقط،
بل لينظروا أيضًا لعازر الذي أقامه من الأموات". [9]
سمع كثير من اليهود بقصة إقامة لعازر من الأموات، إذ كانت موضوع حديث المدينة، فتقاطروا لا ليروا يسوع وحده بل وذاك الذي أقامه من الأموات. لم يأتوا ليسمعوه، بل لينظروا ويتأكدوا من قصة الإقامة من الأموات. لم يأتوا ليلقوا أيديهم عليه، ولا ليخبروا القيادات ضده، بل ليكرموه. جاء البعض لكي يثبتوا إيمانهم بالمسيح بأن يسمعوا معجزة الإقامة من فم لعازر نفسه، وآخرون بحب الاستطلاع جاءوا يتأكدون كيف يقوم إنسان من الموت، وماذا رأى في موته، وما هي أخبار العالم الآخر. صار لعازر في أيام العيد هذه عرضًا عجيبًا يريد كثيرون أن يروه ويسمعوه.
"فتشاور رؤساء الكهنة ليقتلوا لعازر أيضًا". [10]
كتب القديس جيروم رسالة إلى مارسيللا Marcella يمتدح فيه بلاسيللا Blaesilla ابنة باولا Paula فقد انتقل زوجها بعد سبعة شهور من زواجها، وأصيبت بمرضٍ خطيرٍ دفعها إلى الإيمان وتكريس طاقاتها لحساب المسيح، فعانت الكثير من الهجوم على تصرفاتها. حسبها القديس جيروم لعازر الجديد حيث تمتعت بما هو أشبه بالقيامة من الأموات.
* كانت حياتها السابقة تتسم بنوع من الإهمال، وقد تقيّدت بأربطة الغنى، ورقدت كمن هي ميِّتة في قبر العالم. لكن يسوع تحرك في ضيق وانزعج بالروح وصرخ: "بلاسيلا، هلم خارجًا". لقد قامت عند دعوته، وخرجت وجلست تأكل مع الرب (يو 2:12). في غضب هدّدها اليهود، يطلبون قتلها، لأن المسيح أقامها (يو 10:12). إنها تكتفي بأن يعطي الرسل المجد للَّه. بلاسيلا تعرف أنها مدينة بحياتها لذاك الذي رد لها الحياة. إنها تعرف أنها تقدر الآن أن تحتضن قدمي ذاك الذي منذ قليل كانت ترهبه كديّان لها... أيّة تعزية لها في كلماتهم (للمقاومين لها) التي هي أخف من الدخان؟[1262]
القديس جيروم
أما كان يستطيع المسيح الرب القادر أن يقيم من الأموات أن يقيم من يُقتل (أي يقيم نفسه حين طلب اليهود قتله)؟
حينما كنتم تعدون موتًا عنيفًا للعازر، هل كنتم تجردون الرب من سلطانه؟
إن كنتم تظنون أن الميت غير المقتول فانظروا فقط إلى هذا، أن الرب فعل الأمرين، فأقام لعازر حين كان ميتًا، وأقام نفسه حين قُتل[1263].
القديس أغسطينوس
"لأن كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون،
ويؤمنون بيسوع". [11]
إذ التهبت قلوب الكثيرين بالشوق نحو رؤية يسوع والإيمان به تزايد بالأكثر حسد رؤساء الكهنة، وتشاوروا معًا، فلم يجدوا سبيلًا آخر للخلاص من هذا الموقف سوى قتله. لقد بذلوا كل الجهد لتشويه صورته أمام الجموع حتى يتخلى الكل عنه، لكن ذهبت هذه كلها هباءً، خاصة بإقامة لعازر من الموت. لم يكن يوجد دليل على كونه المسيا مثل إقامته الأموات، واهبًا للحياة، لأنه هو الحياة.
2. دخوله أورشليم منتصرًا
"وفي الغد سمع الجمع الكثير الذي جاء إلى العيد أن يسوعآت إلى أورشليم". [12]
"فأخذوا سعوف النخل،
وخرجوا للقائه،
وكانوا يصرخون:
أوصنا،
مبارك الآتي باسم الرب، ملكإسرائيل". [13]
كان سعف النخيل يشير إلى النصرة، لهذا دعا شيشرون إنسانًا نال جوائز كثيرة "رجل السعف الكثير". لقد غلب السيد قوات الظلمة بموته، لهذا استحق أن يحملوا سعف النخيل أمامه.
هذا وحمل سعف النخيل كان يمثل دورًا رئيسيًا في الاحتفال بعيد المظال، فكان علامة للبهجة بالعيد. وكأن المسيح هو عيدنا، مفرح قلوبنا.
يشبه سليمان الحكيم النفس المحبوبة لعريسها السيد المسيح بالنخلة: "قلت إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها" (نش ٧: ٨).
اعتاد الأقباط في أحد الشعانين أن يتباروا في اقتاء السعف وجدله وتزيينه بالورود ووضع "قربان على شكل صليب" فيه... كعلامة مبهجة لاستقبال النفس لعريسها الغالب، وبهجة القلب بالملك السماوي، مخلص النفوس من الفساد. ولا يزال كثيرون يحتفظون بالسعف المجدول من أحد الشعانين حتى يحل أحد الشعانين التالي، علامة استمرارية الترحيب بالملك في القلب كما في الأسرة داخل البيت.
قدموا صرخات مستقبلية مقتبسة من مز ١١٨ : ٢٥-٢٦. هكذا جاء لقاء الشعب متناغمًا مع الفكر الكتابي، إذ لمسوا فيه أنه المسيا المنتظر، بينما أصيبت القيادات الدينية بالعمى الروحي.
مع أنه جاء فقيرًا بلا مجد زمني، لكن الشعب استقبله كملكٍ مخلصٍ لإسرائيل. أدركوا أنه الملك البار القادم باسم الرب (مز ٢: ٦). قبلوا مملكته بكل قلوبهم، عبروا عن ذلك بقولهم "أوصنا" أو "هوشعنا"، وتعني "خلصنا".
فتح الشعب قلوبهم ليدخل فيها رب المجد، وكأنهم ترنموا مع المرتل قائلين: "ارتفعي أيتها الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد... الرب القدير الجبار، الرب الجبار في القتال" (مز ٢٤: ٧-٨).
* سعف النخيل هو رمز للمديح يشير إلى النصرة، إذ جاء الرب للنصرة على الموت بالموت، وبغلبة صليبه يهزم رئيس الموت.
الهتاف الذي استخدمه الشعب المتعبد هو "هوشعنا"؛ البعض ممن يعرفون العبرية يرون أنه يشير إلى الذهن في حالة من اليقين، وذلك كما في لساننا (اللاتيني) صيغ للتعجب ففي حزننا نقول: "وأسفاه"، وفي فرحنا: "ها!" وفي دهشتنا: "رائع!"، وفي تعجبنا: "ياه!" هكذا هذه الكلمة تدخل في نفس الفصيلة حيث لا توجد ترجمة لها في اليونانية أو اللاتينية، مثل غيرها: "من يقول لأخيه: رقا!" لأن هذه أداة تعجب تعبر عن مشاعر الغضب[1264].
* "مبارك الآتي باسم الرب، ملك إسرائيل"[١٣]. بالأحرى يفهم "باسم الرب" أنه "باسم الله الرب" كما يمكن أن يفهم على أنه باسمه هو، بكونه هو الرب[1265].
* أية محنة ذهنية عانى منها رؤساء اليهود وهم يسمعون جمهورًا عظيمًا كهذا يعلنون أن يسوع هو ملكهم!
لكن أية كرامة ينالها الرب ليكون ملكًا لإسرائيل؟
أي أمر عظيم لملك الأبدية أن يصير ملكًا للبشر؟
فإن ملوكية المسيح على إسرائيل ليس بقصد نوال جزية، ولا بتقديم سيوف في أيدي الجنود، ولا لهزيمة أعدائه في حرب علنية، لكنه هو ملك إسرائيل في ممارسته سلطانه الملوكي على طبيعتهم الداخلية، وفي تدبير اهتماماتهم الأبدية، وفي جلب الذين لهم الإيمان والرجاء والمحبة متركزة فيه إلى ملكوته السماوي. لهذا فإنه بالنسبة لابن الله، المساوي للآب، الكلمة الذي به كان كل شيء، وبمسرته صار ملكًا لإسرائيل، هو عمل فيه تنازل وليس فيه ارتفاع له. إنه سمة حنو، وليس تزايد في السلطة. فإن ذاك الذي كان يُدعى ملك إسرائيل على الأرض، يُدعى رب الملائكة في السماء[1266].
القديس أغسطينوس
"ووجد يسوع جحشًا،
فجلس عليه كما هو مكتوب". [14]
اعتاد السيد المسيح أن يدخل مشيًا على قدميه، لكنه الآن يمتطي جحشًا في تواضع عجيب. لم يأتِ راكبًا مركبة كسليمان (نش ٣: ٩-١٠) بأعمدة من فضة وقواعد من ذهب ومغشاة بالأرجوان. لم يكن مجده ماديًا، لأن مملكته ليست من هذا العالم، لهذا لم يحمل مظهر الأبهة.
"فجلس عليه"، لم يقل "ركبه"، إذ أراد الإنجيلي أن يبرز موقفه كملكٍ يتربع على العرش.
ما ورد هنا باختصار ذكره الإنجيليون الآخرون في شيء من التوسع (مت ٢١: ١-١٦؛ مر ١١ : ١-١١؛ لو ١٩: ٢٩-٤٨).
"لا تخافي يا ابنة صهيون،
هوذا ملكك يأتي جالسًا على جحش اتان". [15]
يدعو النبي ابنة صهيون أن تتطلع إلى ملكها المتواضع والوديع الذي يملأ حياتها ببهجة النصرة، لذا يدعوها ألا تخاف، بل تفرح وتتهلل، فقد جاء لكي ينزع عنها القلق والخوف. لقد تحققت نبوة زكريا النبي: "ابتهجي جدًا (لا تخافي) يا ابنة صهيون... هوذا ملكك يأتي إليك، وهو عادل ومنصور، وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان" (زك ٩ : ٩). إنه لم يأتِ لكي ينتقم من الأعداء، يهودًا كانوا أم رومانيين، وإنما جاء ليحل بسلامه السماوي ومجده العلوي عليهم. هذا ما عبَّر عنه الإنجيلي لوقا: "سلام في السماء، ومجد في الأعالي" (لو ١٩ : ٣٨). ويعلق القديس أغسطينوس على ذلك قائلًا:
* قيل لها "لا تخافي"، لتعرفيه ذاك الذي الآن تمجديه، ولا تعطي للخوف طريقًا إذ يأتي ليتألم. فإنه بسفك دمه يُمحى ذنبك، وتُرد لك حياتك. أما عن الجحش ابن الأتان الذي لم يركبه إنسان قط (كما ورد في الإنجيليين الآخرين) فيفهم شعوب الأمم التي لم تتقبل ناموس رب، وأما الأتان... فيشير إلى شعبه الذي جاء من إسرائيل وخضع لمعرفة مزود سيده[1267].
القديس أغسطينوس
* "لا تخافي يا ابنة صهيون"، لأن ملوك اليهود كانوا غالبًا ظالمين وطامعين، إذ سلموهم لأعدائهم وجعلوهم تحت الجباية عند محاربيهم... لكن ليس هذا هو حال ذاك الوديع والمتواضع كما يظهر من ركوبه الأتان، لأنه لم يدخل المدينة يقتاد جيشًا، لكنه جلس على الأتان فقط[1268].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"وهذه الأمور لم يفهمها تلاميذه أولًا،
ولكن لما تمجد يسوع حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه،
وأنهم صنعوا هذه له". [16]
لم يستطع التلاميذ إدراك حقيقة الأحداث وما وراءها، وكيف تحققت نبوات العهد القديم إلاَّ بعد أن تمجّد السيد المسيح بقيامته وفتح قلوبهم بالحب وأذهانهم بروح المعرفة، فأدركوا أنهم تمتعوا بالعهد الجديد الذي اشتهاه الأنبياء قديمًا.
يقدم لنا الإنجيلي هذه الملاحظة أن التلاميذ لم يفهموا الأحداث أنها تتمم النبوات حتى حلّ الروح القدس عليهم بعد أن تمجد المسيح بصلبه وقيامته فأدركوها. كانوا كأطفالٍ صغارٍ يتصرفون وهم لا يدركون الأمور، لكنهم إذ بلغوا النضوج عرفوا ما وراء الأحداث من أسرارٍ إلهية، وعرفوا خطة الله للخلاص.
* أرأيت كيف أن التلاميذ جهلوا أكثر النبوات عن السيد المسيح إذ لم يعلنها لهم؟ ولا حين قال: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يو 2: 19) عرفوا ذلك.يقول إنجيل آخر: "كان هذا الأمر مُخفي عنهم" (لو ١٨: ٣٤)، ولن يعرفوا أنه كان ينبغي أن يقوم من الأموات...
انظر إلى فلسفة البشير، كيف أنه لم يخجل من إشهار غباوة التلاميذ الأولى.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* لم يخجل القديس يوحنا من الاعتراف بجهل التلاميذ، فقد عاد وأظهر معرفتهم، لأنه لم يضع في اعتباره تكريم الناس، بل كان يدعو لمجد الروح.
القديس كيرلس الكبير
اختلفت وجهات النظر نحو هذا الموكب الفريد:
1. تطلع إليه السيد المسيح أنه موكب المجد خلال الصليب، فقد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان بتقديم نفسه حمل الفصح عن العالم كله، ليعبر بالمؤمنين من عبودية إبليس إلى كنعان السماوية.
2. وتطلع إليه رجال العهد القديم وهم في الجحيم، ليروا تحقيق الرموز والنبوات، وقد حانت اللحظات التي طالما ترقبوها بشوقٍ عظيمٍ، ليأتي من يخرج بهم إلى الفردوس، حاملًا إياهم غنائم سماوية.
3. وتطلع التلاميذ إلى الموكب، ولم يفهموا شيئًا! دخلوا في حالة ارتباك شديد!
4. تطلع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى الموكب أنه دمار تام لمراكزهم ومصالحهم الشخصية.
5. تطلعت الجموع إلى الموكب أنه دخول إلى عصرٍ جديد، حيث جاء من يخلصهم من الاستعمار الروماني، ويهبهم مجدًا زمنيًا!
6. أخيرًا تطلع السمائيون إلى الموكب وهم يدهشون أمام تواضع كلمة الله المتجسد، وهو ملك السماء والأرض، يجلس على جحش ويزفه بشر ضعفاء... ماذا وراء تواضعه هذا وحبه للبشر؟!
"وكان الجمع الذي معه يشهدأنه دعا لعازر من القبر،
وأقامه من الأموات". [17]
خروج هذه الجموع الغفيرة للقائه كان بسبب إقامة لعازر، وفي نفس الوقت أعطى الفرصة للحديث عن إقامة لعازر من الأموات، فتعلق به كثيرون، وتزايد بالأكثر حسد الفريسيين، وفقدوا كل أملٍ لهم في محاصرة شعبية يسوع المسيح والحدّ من سلطانه، فلم يكن أمامهم سوى الإسراع بقتله والخلاص منه. قُدمت عظات كثيرة للشعب، وصنعت آيات لا حصر لها، لكن إقامة لعازر من الأموات جذبت جماهير نحو السيد المسيح. فإنه ليس من أمر يحطم الإنسان مثل الموت، ولا ما يبهجه مثل القيامة من الموت.
* لم يرد كثيرون أن يتغيروا في الحال حتى آمنوا بالمعجزة[1269].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"لهذا أيضًا لاقاه الجمع،
لأنهم سمعواأنه كان قد صنع هذه الآية". [18]
"فقال الفريسيون بعضهم لبعض:
انظرواإنكم لا تنفعون شيئًا،
هوذا العالم قد ذهب وراءه". [19]
الآن تحققت كل مخاوف القيادات الدينية، خاصة رؤساء الكهنة والفريسيين، فقد كاد الأمر يفلت من أيديهم، إذ تحرك الشعب ككل في موكب هزَّ مدينة أورشليم. فمن جانب اكتشف الفريسيون حقيقة أنفسهم: "إنكم لا تنفعون شيئًا" [19]، ومن الجانب الآخر شعر الفريسيون كأن العالم كله ذهب وراءه، وهنا يقصد به العالم اليهودي، أي كل إنسان، قد التصق به كتلميذٍ له. وأن كل تأخير في الخلاص منه يمثل خطرًا يصعب علاجه.
* قول الفريسيين: "هوذا العالم قد ذهب وراءه" قصدوا بالعالم هنا الجمع، لأن من عادة الكتاب المقدس أن يدعو الخليقة والسالكين في شرهم عالمًا، فقد قال السيد المسيح لتلاميذه: "لا يقدر العالم أن يبغضكم، ولكنه يبغضني أنا، لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة" (يو 7: 7).
يوحنا 12 - تفسير إنجيل يوحنا عشاء في بيت لحم الجزء(2)للقمص تادرس يعقوب ملطي * محبة المال أمر مروع، فإنها تفسد الأعين والآذان، وتجعل البشر أردأ من الوحوش المفترسة، فلا تعطي للإنسان أن يضع في اعتباره ضميره ولا الصداقة ولا الزمالة ولا خلاص نفسه، وإنما تسحبه من هذا كله، كسيدة عنيفة تستعبد من تأسرهم... لقد جعلت جيحزي أبرص بدلًا من كونه تلميذًا ونبيًا، وأهلكت حنانيا (وسفيرة) معه، وجعلت يهوذا خائنًا. محبة المال أفسدت قادة اليهود... جبلت ربوات الحروب، وملأت الطرق بالدماء، والمدن بالنحيب والمراثي[1259]. القديس يوحنا الذهبي الفم "فقال يسوع: اتركوها، إنها ليوم تكفيني قد حفظته". [7] بينما دانها يهوذا حاسبًا أنها تصرفت بغير حكمةٍ، وبددت المال فيما لا ينفع، وكان يجب تقديمه للفقراء، إذا بالسيد المسيح يعلن أنها قامت بعملٍ روحي نبوي فائق، فقد تنبأت عن تكفينه. خلال حبها تلامست مع آلام السيد المسيح وموته ودفنه، وبتصرفها أعلنت عن رائحة الخلاص الذكية. لم نسمع قط أن أنسانًا يُكفن، ويُدهن جسده للتكفين، وهو بعد حيّ، أما السيد المسيح فحسب هذا الطيب تكفينًا لجسده الذي لن يرى فسادًا. لقد سلم جسده المبذول طعامًا روحيًا عند تأسيسه سرّ الأفخارستيا في خميس العهد، والآن إذ بذل جسده بإرادته يعلن عن تكفينه. هكذا يؤكد السيد إرادته المقدسة الحرة في قبول الموت والدفن من أجل العالم ليهبهم قوة قيامته وبهجتها. * قول السيد المسيح عن مريم "اتركوها، إنها ليوم تكفيني قد حفظته" ذكر الدافع لما فعلته المرأة. القديس يوحنا الذهبي الفم * انظروا يا اخوة، فإنه لم يقل له: "إنك تقول هذا من أجل لصوصيتك". لقد عرفه أنه لص. ومع هذا لم يخَوِّنه بل بالأحرى احتمله، مقدمًا لنا مثالًا للصبر في احتمال الأشرار في الكنيسة[1260]. القديس أغسطينوس "لأن الفقراء معكم في كل حين، وأما أنا فلست معكم في كل حين". [8] حمل هذا القول إشارة خفية للعملين، فمن جهة عمل يهوذا المختفي وراء تظاهره بحب الفقراء بينما يقوم بتسليم سيده للموت في خيانة بشعة، والثاني عمل مريم الرائع حيث تلقفت هذا الجسد المُسلم للموت لتكرمه بأغلى ما لديها، الطيب الكثير الثمن. إنه يوبخ يهوذا سرًا، لأنه يدعي حب الفقراء، ويكرم مريم، لأنها وجدت فرصة لا تتكرر "لست معكم في كل حين". لقد كفنت مريم جسد مسيحها وهو حيّ، فنالت مديحًا من فم السيد نفسه. كفن نيقوديموس ويوسف الرامي جسد السيد بعد موته، فنالوا كرامة لكنها لا تقارن بالكرامة التي نالتها مريم. هي قدمت رطلًا من الطيب وهما قدما مائة رطل، لكن التقدمة الأولى للجسد الحي فاقت كثيرًا التقدمة الثانية. مريم لا تزال تدعونا أن نطيب جسد المسيح الحي في أعضائه الفقراء والمساكين والمتألمين والمطرودين والذين ليس لهم من يسأل عنهم، فقد وعدنا الله: "لأنه لا تفقد الفقراء من الأرض، لذلك أنا أوصيك قائلًا: افتح يديك لأخيك المسكين والفقير في أرضك" (تث ١٥: ١١). ويدعونا نيقوديموس ويوسف الرامي أن نطيب جسده في الأعضاء التي رحلت، أي الشهداء والقديسين. لا يمكن أن نمارس عملًا على حساب الآخر، إذ حبنا للفقراء يتناغم مع حبنا للقديسين الذين لا يزالوا أحياء يمارسون الحب لله كما لكل البشرية بالصلاة والشكر الدائم. * أراد المسيح أن يحد من شره المتزايد، مستخدمًا تواضعًا عظيمًا نحوه. لذلك لم يذّكره بالسرقة مع أنه يعرفها، وهكذا وضع عبارة تحجز رغبته الشريرة، وتنزع عنه كل دفاع عن نفسه[1261]. القديس يوحنا الذهبي الفم * بخصوص حضوره الإلهي معنا، فالمسيح حاضر على الدوام، وبخصوص حضوره في الجسد، بحق قال لتلاميذه: "لست معكم في كل حين" [8]. القديس أغسطينوس "فعلم جمع كثير من اليهودأنه هناك، فجاءوا ليس لأجل يسوع فقط، بل لينظروا أيضًا لعازر الذي أقامه من الأموات". [9] سمع كثير من اليهود بقصة إقامة لعازر من الأموات، إذ كانت موضوع حديث المدينة، فتقاطروا لا ليروا يسوع وحده بل وذاك الذي أقامه من الأموات. لم يأتوا ليسمعوه، بل لينظروا ويتأكدوا من قصة الإقامة من الأموات. لم يأتوا ليلقوا أيديهم عليه، ولا ليخبروا القيادات ضده، بل ليكرموه. جاء البعض لكي يثبتوا إيمانهم بالمسيح بأن يسمعوا معجزة الإقامة من فم لعازر نفسه، وآخرون بحب الاستطلاع جاءوا يتأكدون كيف يقوم إنسان من الموت، وماذا رأى في موته، وما هي أخبار العالم الآخر. صار لعازر في أيام العيد هذه عرضًا عجيبًا يريد كثيرون أن يروه ويسمعوه. "فتشاور رؤساء الكهنة ليقتلوا لعازر أيضًا". [10] كتب القديس جيروم رسالة إلى مارسيللا Marcella يمتدح فيه بلاسيللا Blaesilla ابنة باولا Paula فقد انتقل زوجها بعد سبعة شهور من زواجها، وأصيبت بمرضٍ خطيرٍ دفعها إلى الإيمان وتكريس طاقاتها لحساب المسيح، فعانت الكثير من الهجوم على تصرفاتها. حسبها القديس جيروم لعازر الجديد حيث تمتعت بما هو أشبه بالقيامة من الأموات. * كانت حياتها السابقة تتسم بنوع من الإهمال، وقد تقيّدت بأربطة الغنى، ورقدت كمن هي ميِّتة في قبر العالم. لكن يسوع تحرك في ضيق وانزعج بالروح وصرخ: "بلاسيلا، هلم خارجًا". لقد قامت عند دعوته، وخرجت وجلست تأكل مع الرب (يو 2:12). في غضب هدّدها اليهود، يطلبون قتلها، لأن المسيح أقامها (يو 10:12). إنها تكتفي بأن يعطي الرسل المجد للَّه. بلاسيلا تعرف أنها مدينة بحياتها لذاك الذي رد لها الحياة. إنها تعرف أنها تقدر الآن أن تحتضن قدمي ذاك الذي منذ قليل كانت ترهبه كديّان لها... أيّة تعزية لها في كلماتهم (للمقاومين لها) التي هي أخف من الدخان؟[1262] القديس جيروم أما كان يستطيع المسيح الرب القادر أن يقيم من الأموات أن يقيم من يُقتل (أي يقيم نفسه حين طلب اليهود قتله)؟ حينما كنتم تعدون موتًا عنيفًا للعازر، هل كنتم تجردون الرب من سلطانه؟ إن كنتم تظنون أن الميت غير المقتول فانظروا فقط إلى هذا، أن الرب فعل الأمرين، فأقام لعازر حين كان ميتًا، وأقام نفسه حين قُتل[1263]. القديس أغسطينوس "لأن كثيرين من اليهود كانوا بسببه يذهبون، ويؤمنون بيسوع". [11] إذ التهبت قلوب الكثيرين بالشوق نحو رؤية يسوع والإيمان به تزايد بالأكثر حسد رؤساء الكهنة، وتشاوروا معًا، فلم يجدوا سبيلًا آخر للخلاص من هذا الموقف سوى قتله. لقد بذلوا كل الجهد لتشويه صورته أمام الجموع حتى يتخلى الكل عنه، لكن ذهبت هذه كلها هباءً، خاصة بإقامة لعازر من الموت. لم يكن يوجد دليل على كونه المسيا مثل إقامته الأموات، واهبًا للحياة، لأنه هو الحياة. 2. دخوله أورشليم منتصرًا "وفي الغد سمع الجمع الكثير الذي جاء إلى العيد أن يسوعآت إلى أورشليم". [12] "فأخذوا سعوف النخل، وخرجوا للقائه، وكانوا يصرخون: أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب، ملكإسرائيل". [13] كان سعف النخيل يشير إلى النصرة، لهذا دعا شيشرون إنسانًا نال جوائز كثيرة "رجل السعف الكثير". لقد غلب السيد قوات الظلمة بموته، لهذا استحق أن يحملوا سعف النخيل أمامه. هذا وحمل سعف النخيل كان يمثل دورًا رئيسيًا في الاحتفال بعيد المظال، فكان علامة للبهجة بالعيد. وكأن المسيح هو عيدنا، مفرح قلوبنا. يشبه سليمان الحكيم النفس المحبوبة لعريسها السيد المسيح بالنخلة: "قلت إني أصعد إلى النخلة وأمسك بعذوقها" (نش ٧: ٨). اعتاد الأقباط في أحد الشعانين أن يتباروا في اقتاء السعف وجدله وتزيينه بالورود ووضع "قربان على شكل صليب" فيه... كعلامة مبهجة لاستقبال النفس لعريسها الغالب، وبهجة القلب بالملك السماوي، مخلص النفوس من الفساد. ولا يزال كثيرون يحتفظون بالسعف المجدول من أحد الشعانين حتى يحل أحد الشعانين التالي، علامة استمرارية الترحيب بالملك في القلب كما في الأسرة داخل البيت. قدموا صرخات مستقبلية مقتبسة من مز ١١٨ : ٢٥-٢٦. هكذا جاء لقاء الشعب متناغمًا مع الفكر الكتابي، إذ لمسوا فيه أنه المسيا المنتظر، بينما أصيبت القيادات الدينية بالعمى الروحي. مع أنه جاء فقيرًا بلا مجد زمني، لكن الشعب استقبله كملكٍ مخلصٍ لإسرائيل. أدركوا أنه الملك البار القادم باسم الرب (مز ٢: ٦). قبلوا مملكته بكل قلوبهم، عبروا عن ذلك بقولهم "أوصنا" أو "هوشعنا"، وتعني "خلصنا". فتح الشعب قلوبهم ليدخل فيها رب المجد، وكأنهم ترنموا مع المرتل قائلين: "ارتفعي أيتها الأبواب الدهرية فيدخل ملك المجد... الرب القدير الجبار، الرب الجبار في القتال" (مز ٢٤: ٧-٨). * سعف النخيل هو رمز للمديح يشير إلى النصرة، إذ جاء الرب للنصرة على الموت بالموت، وبغلبة صليبه يهزم رئيس الموت. الهتاف الذي استخدمه الشعب المتعبد هو "هوشعنا"؛ البعض ممن يعرفون العبرية يرون أنه يشير إلى الذهن في حالة من اليقين، وذلك كما في لساننا (اللاتيني) صيغ للتعجب ففي حزننا نقول: "وأسفاه"، وفي فرحنا: "ها!" وفي دهشتنا: "رائع!"، وفي تعجبنا: "ياه!" هكذا هذه الكلمة تدخل في نفس الفصيلة حيث لا توجد ترجمة لها في اليونانية أو اللاتينية، مثل غيرها: "من يقول لأخيه: رقا!" لأن هذه أداة تعجب تعبر عن مشاعر الغضب[1264]. * "مبارك الآتي باسم الرب، ملك إسرائيل"[١٣]. بالأحرى يفهم "باسم الرب" أنه "باسم الله الرب" كما يمكن أن يفهم على أنه باسمه هو، بكونه هو الرب[1265]. * أية محنة ذهنية عانى منها رؤساء اليهود وهم يسمعون جمهورًا عظيمًا كهذا يعلنون أن يسوع هو ملكهم! لكن أية كرامة ينالها الرب ليكون ملكًا لإسرائيل؟ أي أمر عظيم لملك الأبدية أن يصير ملكًا للبشر؟ فإن ملوكية المسيح على إسرائيل ليس بقصد نوال جزية، ولا بتقديم سيوف في أيدي الجنود، ولا لهزيمة أعدائه في حرب علنية، لكنه هو ملك إسرائيل في ممارسته سلطانه الملوكي على طبيعتهم الداخلية، وفي تدبير اهتماماتهم الأبدية، وفي جلب الذين لهم الإيمان والرجاء والمحبة متركزة فيه إلى ملكوته السماوي. لهذا فإنه بالنسبة لابن الله، المساوي للآب، الكلمة الذي به كان كل شيء، وبمسرته صار ملكًا لإسرائيل، هو عمل فيه تنازل وليس فيه ارتفاع له. إنه سمة حنو، وليس تزايد في السلطة. فإن ذاك الذي كان يُدعى ملك إسرائيل على الأرض، يُدعى رب الملائكة في السماء[1266]. القديس أغسطينوس "ووجد يسوع جحشًا، فجلس عليه كما هو مكتوب". [14] اعتاد السيد المسيح أن يدخل مشيًا على قدميه، لكنه الآن يمتطي جحشًا في تواضع عجيب. لم يأتِ راكبًا مركبة كسليمان (نش ٣: ٩-١٠) بأعمدة من فضة وقواعد من ذهب ومغشاة بالأرجوان. لم يكن مجده ماديًا، لأن مملكته ليست من هذا العالم، لهذا لم يحمل مظهر الأبهة. "فجلس عليه"، لم يقل "ركبه"، إذ أراد الإنجيلي أن يبرز موقفه كملكٍ يتربع على العرش. ما ورد هنا باختصار ذكره الإنجيليون الآخرون في شيء من التوسع (مت ٢١: ١-١٦؛ مر ١١ : ١-١١؛ لو ١٩: ٢٩-٤٨). "لا تخافي يا ابنة صهيون، هوذا ملكك يأتي جالسًا على جحش اتان". [15] يدعو النبي ابنة صهيون أن تتطلع إلى ملكها المتواضع والوديع الذي يملأ حياتها ببهجة النصرة، لذا يدعوها ألا تخاف، بل تفرح وتتهلل، فقد جاء لكي ينزع عنها القلق والخوف. لقد تحققت نبوة زكريا النبي: "ابتهجي جدًا (لا تخافي) يا ابنة صهيون... هوذا ملكك يأتي إليك، وهو عادل ومنصور، وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان" (زك ٩ : ٩). إنه لم يأتِ لكي ينتقم من الأعداء، يهودًا كانوا أم رومانيين، وإنما جاء ليحل بسلامه السماوي ومجده العلوي عليهم. هذا ما عبَّر عنه الإنجيلي لوقا: "سلام في السماء، ومجد في الأعالي" (لو ١٩ : ٣٨). ويعلق القديس أغسطينوس على ذلك قائلًا: * قيل لها "لا تخافي"، لتعرفيه ذاك الذي الآن تمجديه، ولا تعطي للخوف طريقًا إذ يأتي ليتألم. فإنه بسفك دمه يُمحى ذنبك، وتُرد لك حياتك. أما عن الجحش ابن الأتان الذي لم يركبه إنسان قط (كما ورد في الإنجيليين الآخرين) فيفهم شعوب الأمم التي لم تتقبل ناموس رب، وأما الأتان... فيشير إلى شعبه الذي جاء من إسرائيل وخضع لمعرفة مزود سيده[1267]. القديس أغسطينوس * "لا تخافي يا ابنة صهيون"، لأن ملوك اليهود كانوا غالبًا ظالمين وطامعين، إذ سلموهم لأعدائهم وجعلوهم تحت الجباية عند محاربيهم... لكن ليس هذا هو حال ذاك الوديع والمتواضع كما يظهر من ركوبه الأتان، لأنه لم يدخل المدينة يقتاد جيشًا، لكنه جلس على الأتان فقط[1268]. القديس يوحنا الذهبي الفم "وهذه الأمور لم يفهمها تلاميذه أولًا، ولكن لما تمجد يسوع حينئذ تذكروا أن هذه كانت مكتوبة عنه، وأنهم صنعوا هذه له". [16] لم يستطع التلاميذ إدراك حقيقة الأحداث وما وراءها، وكيف تحققت نبوات العهد القديم إلاَّ بعد أن تمجّد السيد المسيح بقيامته وفتح قلوبهم بالحب وأذهانهم بروح المعرفة، فأدركوا أنهم تمتعوا بالعهد الجديد الذي اشتهاه الأنبياء قديمًا. يقدم لنا الإنجيلي هذه الملاحظة أن التلاميذ لم يفهموا الأحداث أنها تتمم النبوات حتى حلّ الروح القدس عليهم بعد أن تمجد المسيح بصلبه وقيامته فأدركوها. كانوا كأطفالٍ صغارٍ يتصرفون وهم لا يدركون الأمور، لكنهم إذ بلغوا النضوج عرفوا ما وراء الأحداث من أسرارٍ إلهية، وعرفوا خطة الله للخلاص. * أرأيت كيف أن التلاميذ جهلوا أكثر النبوات عن السيد المسيح إذ لم يعلنها لهم؟ ولا حين قال: "انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه" (يو 2: 19) عرفوا ذلك.يقول إنجيل آخر: "كان هذا الأمر مُخفي عنهم" (لو ١٨: ٣٤)، ولن يعرفوا أنه كان ينبغي أن يقوم من الأموات... انظر إلى فلسفة البشير، كيف أنه لم يخجل من إشهار غباوة التلاميذ الأولى. القديس يوحنا الذهبي الفم * لم يخجل القديس يوحنا من الاعتراف بجهل التلاميذ، فقد عاد وأظهر معرفتهم، لأنه لم يضع في اعتباره تكريم الناس، بل كان يدعو لمجد الروح. القديس كيرلس الكبير اختلفت وجهات النظر نحو هذا الموكب الفريد: 1. تطلع إليه السيد المسيح أنه موكب المجد خلال الصليب، فقد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان بتقديم نفسه حمل الفصح عن العالم كله، ليعبر بالمؤمنين من عبودية إبليس إلى كنعان السماوية. 2. وتطلع إليه رجال العهد القديم وهم في الجحيم، ليروا تحقيق الرموز والنبوات، وقد حانت اللحظات التي طالما ترقبوها بشوقٍ عظيمٍ، ليأتي من يخرج بهم إلى الفردوس، حاملًا إياهم غنائم سماوية. 3. وتطلع التلاميذ إلى الموكب، ولم يفهموا شيئًا! دخلوا في حالة ارتباك شديد! 4. تطلع رؤساء الكهنة والفريسيون إلى الموكب أنه دمار تام لمراكزهم ومصالحهم الشخصية. 5. تطلعت الجموع إلى الموكب أنه دخول إلى عصرٍ جديد، حيث جاء من يخلصهم من الاستعمار الروماني، ويهبهم مجدًا زمنيًا! 6. أخيرًا تطلع السمائيون إلى الموكب وهم يدهشون أمام تواضع كلمة الله المتجسد، وهو ملك السماء والأرض، يجلس على جحش ويزفه بشر ضعفاء... ماذا وراء تواضعه هذا وحبه للبشر؟! "وكان الجمع الذي معه يشهدأنه دعا لعازر من القبر، وأقامه من الأموات". [17] خروج هذه الجموع الغفيرة للقائه كان بسبب إقامة لعازر، وفي نفس الوقت أعطى الفرصة للحديث عن إقامة لعازر من الأموات، فتعلق به كثيرون، وتزايد بالأكثر حسد الفريسيين، وفقدوا كل أملٍ لهم في محاصرة شعبية يسوع المسيح والحدّ من سلطانه، فلم يكن أمامهم سوى الإسراع بقتله والخلاص منه. قُدمت عظات كثيرة للشعب، وصنعت آيات لا حصر لها، لكن إقامة لعازر من الأموات جذبت جماهير نحو السيد المسيح. فإنه ليس من أمر يحطم الإنسان مثل الموت، ولا ما يبهجه مثل القيامة من الموت. * لم يرد كثيرون أن يتغيروا في الحال حتى آمنوا بالمعجزة[1269]. القديس يوحنا الذهبي الفم "لهذا أيضًا لاقاه الجمع، لأنهم سمعواأنه كان قد صنع هذه الآية". [18] "فقال الفريسيون بعضهم لبعض: انظرواإنكم لا تنفعون شيئًا، هوذا العالم قد ذهب وراءه". [19] الآن تحققت كل مخاوف القيادات الدينية، خاصة رؤساء الكهنة والفريسيين، فقد كاد الأمر يفلت من أيديهم، إذ تحرك الشعب ككل في موكب هزَّ مدينة أورشليم. فمن جانب اكتشف الفريسيون حقيقة أنفسهم: "إنكم لا تنفعون شيئًا" [19]، ومن الجانب الآخر شعر الفريسيون كأن العالم كله ذهب وراءه، وهنا يقصد به العالم اليهودي، أي كل إنسان، قد التصق به كتلميذٍ له. وأن كل تأخير في الخلاص منه يمثل خطرًا يصعب علاجه. * قول الفريسيين: "هوذا العالم قد ذهب وراءه" قصدوا بالعالم هنا الجمع، لأن من عادة الكتاب المقدس أن يدعو الخليقة والسالكين في شرهم عالمًا، فقد قال السيد المسيح لتلاميذه: "لا يقدر العالم أن يبغضكم، ولكنه يبغضني أنا، لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة" (يو 7: 7).