يوحنا 12 - تفسير إنجيل يوحنا
عشاء في بيت لحم الجزء(5)للقمص تادرس يعقوب ملطي
يقول الأولون: "لماذا نسأل الله ولا نسعى نحن للغلبة على التجربة ما دام كل شيء في مقدورنا؟"
يقول الآخرين: "لماذا نجاهد لنحيا صالحين مادامت القدرة على فعل هذا هي في يد الله؟"...
من جانبٍ يلزمنا أن نشكره من أجل القوة التي يمنحنا إياها، ومن الجانب الآخر يلزمنا أن نصلي لكي لا تفشل قوتنا الصغيرة تمامًا. إنه ذات الإيمان عينه العامل بالمحبة (غلا ٥ : ٦)، حسب القياس الذي يهبه الرب لكل إنسان، حتى أن من يفتخر لا يفتخر بذاته بل في الرب (١ كو ١: ٣١)[1300].
* إذن لا عجب أنهم لم يقدروا أن يؤمنوا، حيث كان كبرياء إرادتهم هكذا، إذ جهلوا برّ الله وأرادوا برّ أنفسهم، كما يقول عنهم الرسول: "لم يخضعوا لبرّ الله" (رو ١٠: ٣). إذ انتفخوا لا كما بالإيمان بل بالأعمال، وتعثروا أمام حجر العثرة. هكذا قيل "لم يقدروا"، فنفهم من ذلك أنهم لم يريدوا، وذلك بنفس الطريقة كما قيل عن الرب إلهنا: "إن كنا غير مؤمنين فهو يبقى أمينًا، لن يقدر أن ينكر نفسه" (٢ تي ٢: ١٣). قيل عن الكلي القدرة "لن يقدر"...[1301]
* هؤلاء اليهود "لم يقدروا أن يؤمنوا"، ليس أن هؤلاء الناس لا يقدروا أن يتغيروا إلى الأفضل، وإنما مادامت آراءهم تسلك في هذا الاتجاه لا يقدروا أن يؤمنوا، لهذا فهم عميان وغلاظ القلوب، لأن بإنكارهم الحاجة إلى عون إلهي لم يجدوا عونًا[1302].
القديس أغسطينوس
"قد أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم،
لئلا يبصروا بعيونهم،
ويشعروا بقلوبهم،
ويرجعوا فأشفيهم". [40]
لم يقدروا أن يؤمنوا، لأنهم لم يريدوا، ولا طلبوا عون الله ونعمته لمساندتهم. لهذا لم تفتح نعمة الله أعينهم لمعاينة الحق والتمتع بالخلاص؛ هذا ما يعنيه بقوله: "أعمى عيونهم". مقاموتهم طمست عيون قلوبهم، فلم ينالوا الشفاء من طبيب النفوس والأجساد، فصاروا كمن أعمى الله عيونهم. الإصرار المستمر وعدم الرغبة في التمتع برؤية الحق جعلتهم عاجزين عن الإيمان الحي. هذا النص ورد في إشعياء ٦: ٩، ربما يشير إلى الحكم الذي يحل عليهم كأمةٍ.
* كما أن الشمس تبهر العيون الضعيفة ليس بسبب طبيعتها اللائقة بها، هكذا أيضًا بالنسبة للذين لا يبالون بكلمة الله. هكذا قيل في حالة فرعون أن (الله) قسى قلبه. هكذا يكون حال من هم مصرون تمامًا على مقاومة كلمات الله.
هذا هو أسلوب الكتاب، كما قيل: "أسلمهم إلى فكرٍ مرفوض" (رو ١:٢٨)... فإن الكاتب هنا لا يقدم الله بكونه هو نفسه يفعل هذه الأمور إنما يظهر أنها تحدث خلال شر الآخرين. فلكي يرعب السامع لذلك يقول الكاتب: "قسى الله"، "أسلمهم".
ولكي يُظهر أنه لا يسلمنا ولا يتركنا إلاَّ إذا أردنا نحن ذلك اسمع ما يقوله: "أليست شروركم قد فصلت بيني وبينكم؟" (إش ٥٩: ٢LXX). ويقول هوشع: "أنتم نسيتم ناموس إلهكم، وأنا أيضًا أنساكم" (هو ٤: ٦LXX). وهو نفسه يقول: "كم مرة أرد أن أجمع أبناءكم... وأنتم لا تريدون؟" (لو ١٣: ٣٤)...
إذ نعرف هذا ليتنا نبذل كل الجهد ألا نترك الله، بل نتمسك بالاهتمام بنفوسنا ومحبة بعضنا البعض. ليتنا لا نبتر أعضاءنا، فإن هذا عمل من هم مجانين، بل كلما رأيناهم في وضع شرير نترفق بهم بالأكثر[1303].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"قالإشعياء هذا حين رأى مجده وتكلم عنه". [41]
نطق إشعياء النبي بهذا حين رأى مجده وتحدث عنه. رأى السيد على كرسي عالٍ وأذياله تملأ الهيكل. المجد الذي رآه إشعياء هو مجد يهوه؛ هنا القديس يوحنا الإنجيلي يقول أنه مجد يسوع، حاسبًا أن يسوع المسيح هو يهوه. جاءت الترجمة الآرامية (الترجوم): "لأن عيني رأتا شاكيناه الرب" (إش ٦ :٥). ولما كانت شاكيناه هي النور الإلهي أو الحضرة الإلهية، فإن ما رآه إشعياء النبي هو نور الرب أو بهاءه، شعاع مجده ورسم جوهره (عب ١: ٣).
* إن سألت: مجد من رأى إشعياء النبي؟ أجبتك: مجد الآب. ولعلك تقول: فكيف يتحدث إشعياء النبي عن مجد الآب، ويوحنا البشير عن مجد الابن، وبولس الرسول عن مجد الروح؟ أجيبك: لم يكن حالهم حال من يجمعون الأقانيم، لكنهم قالوا هذا القول موضحين رتبة واحدة موجودة بهم، وبيان ذلك أن سمات الآب هي سمات ابنه، وسمات الابن هي سمات الروح.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* ما رآه إشعياء ليس الله كما هو، وإنما بطريقة رمزية تناسب إمكانية رؤية النبي. فإن موسى أيضًا رآه، ومع هذا نجده يقول له عندما رآه: "فالآن إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك حتى أعرفك..." (خر ٣٣: ١٣)، إذ لم يرً الله كما هو... "أيها الأحباء الآن نحن أولاد الله، ولم يظهر بعد ماذا سنكون. ولكن نعلم أنه إذ أُظهر نكون مثله، لأننا سنراه كما هو" (١ يو ٣: ٢)[1304].
القديس أغسطينوس
6. تمجيد بعض الرؤساء له
"ولكن مع ذلكآمن به كثيرون من الرؤساء أيضًا،
غير أنهم لسبب الفريسيين لم يعترفوا به،
لئلا يصيروا خارج المجمع". [42]
آمن به بعض الرؤساء مثل نيقوديموس (يو ٣)، حاسبًا إياه معلمًا من عند الله، وأيضًا يوسف الرامي الذي تقدم لبيلاطس لاستلام جسده، ونال بركة دفنه في قبره الجديد. ووُجد غيرهما ممن آمنوا به في قلوبهم، لكنهم لم يتجاسروا ويعلنوا إيمانهم علانية. وسنتحدث عن مجمع السنهدرين في نهاية هذا الأصحاح بمشيئة الرب.
ظن إيليا أنه وحده يعبد الله ولم يدرك أن سبعة آلاف رجل لم يحنوا ركبة لبعلٍ يراهم الله ولا يعرفهم العالم. هكذا في كل جيل توجد بقية أمينة خفية لها تقديرها في عيني الله لا عند الناس.
"لأنهمأحبوا مجد الناسأكثر من مجد الله". [43]
لم يعترف البعض به خشية فقدان كرامتهم الزمنية، إذ أحبوا مجد الناس أكثر من مجد الله. وكما يقول السيد المسيح: "كيف تقدرون أن تؤمنوا، وأنتم تقبلون مجدًا بعضكم من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه؟!" (يو ٥: ٤٤).
* هذا ما قاله لهم السيد المسيح: "كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجدًا من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه؟" (يو 5: 44)، فلم يكونوا إذًا رؤساء، لكنهم كانوا عبيدًا، لأنهم ابتعدوا عن الإيمان لعشقهم في المجد الباطل.
القديس يوحنا الذهبي الفم
7. شهادة المسيح لنفسه
"فنادى يسوع وقال:
الذي يؤمن بي ليس يؤمن بي،
بل بالذي أرسلني". [44]
هذا هو ختام عظته الموجهة للأشرار المصممين على عدم الإيمان، وتُحسب تكملة للعظة التي قُطعت بالآية ٣٧. لقد نادى (صرخ) يسوع بصوتٍ عالٍ، مظهرًا غيرته الشديدة على خلاصهم.
هنا يؤكد وحدته الخفية مع الآب، فمن يؤمن بالابن يؤمن بالآب الذي أرسله، ومن يرى الابن يرى الآب أيضًا، من يكرم الابن يكرم الآب.
* معنى: "لا يؤمن" أي لا يكون ذلك عند حدود الشكل الجسدي، ولا عند حدود الإنسان الذي ترونه. فإنه يقرر أنه يلزمنا أن نؤمن بأنه ليس إنسانًا مجردًا، بل نؤمن بيسوع المسيح اللَّه والإنسان (في نفس الوقت).
القديس أمبروسيوس
* كأن يقول: "لماذا تخشون أن تؤمنوا بي؟ الإيمان بي يعبر خلالي إلى الآب، كما أن إنكاركم إياي يصل إليه. انظروا كيف أنه بكل وسيلة يظهر عدم الاختلاف في الجوهر[1305].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* تكريم الابن فيه تكريم للآب، إنه لا يُنقص من لاهوته[1306].
* الآن عندما يقول: "الذي يؤمن بي، ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني" [٤٤]. ماذا نفهم سوى أنه ظهر كإنسانٍ للبشر بينما بقي غير منظور بكونه الله؟ ولكي لا يظن أحد أنه ليس بأكثر مما يروه فيه يشير إلى الإيمان به كمساوٍ للآب في الشخصية والرتبة... فمن يؤمن بالآب يلزمه أن يؤمن أنه أب، ومن يؤمن بالآب يؤمن أن له ابن، وبهذا فمن يؤمن بالآب يلزمه أن يؤمن بالابن[1307].
القديس أغسطينوس
"والذي يراني، يرى الذيأرسلني". [45]
* ماذا إذن؟ هل لله جسد؟ لا يمكن! فإن الرؤية التي يتحدث عنها ليست بجهة من الجهات جسمًا، فالبصر هنا إنما يريد به بصيرة العقل، وفي هذه الجهة بيَّن السيد المسيح أن جوهره هو جوهر أبيه. هنا يعلن عن الشركة في ذات الجوهر[1308].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* نطق بالكلمات السابقة (يو 12: ٤٤) حتى لا يؤمن أحد أنه مجرد ما يظهر عليه، أي أنه ابن الإنسان، وبالكلمات التالية [٤٥] لكي يؤمنوا أنه مساوٍ للآب...
لقد أرسل المسيح رسله... لكن لم يكن ممكنًا لأحدهم أن يقول: "من يؤمن بي ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني"، فإنه ليس من أي أساس يمكن أن يقوم عليه القول: "يؤمن بي"
نحن نصدق الرسول، لكننا لا نؤمن به، لأنه ليس من رسول يبرر الخطاة. إنما نؤمن بالذي يبرر الخطاة، إيمانه يُحسب برًا (رو ٤: ٥).
يُمكن للرسول أن يقول: "من يقبلني يقبل الذي أرسلني"، أو "من يسمعني يسمع الذي أرسلني"، إذ يقول الرب: من يقبلكم يقبلني، ومن يقبلني يقبل الذي أرسلني (مت ١٠: ٤٠). فإن السيد يُكرم في الخادم، والأب في الابن، وعندئذ الأب كما في الابن والسيد كما في الخادم.
أمكن للابن الوحيد الجنس بحقٍ أن يقول: "آمنوا بالله، فآمنوا بي" (يو ١٤: ١). وكما يقول هنا أيضًا: "الذي يؤمن بي، ليس يؤمن بي، بل بالذي أرسلني". إنه لا يحول إيمان المؤمن عنه، وإنما أراد ألا يقف المؤمن عند إيمانه به كعبدٍ، لأن كل من يؤمن بالآب يؤمن للحال بالابن، الذي بدونه لا يكون للآب وجود كآبٍ. وهكذا يبلغ إلى إيمانه بمساواته للآب، ذلك طبقًا للكلمات التالية لها: "والذي يراني، يرى الذي أرسلني" [٤٥][1309].
القديس أغسطينوس
"أنا قد جئت نورًا إلى العالم،
حتى كل من يؤمن بي، لا يمكث في الظلمة". [46]