يوحنا 12 - تفسير إنجيل يوحنا
عشاء في بيت لحم الجزء(3)للقمص تادرس يعقوب ملطي
3. تكريم اليونانيين ليسوع
"وكان أناس يونانيون من الذين صعدوا ليسجدوا في العيد". [20]
اشتهى بعض الدخلاء من اليونانيين أن يروا يسوع. وقد جاء تصرفهم هذا ربما بعد يومٍ أو يومين من دخول السيد المسيح إلى أورشليم، إذ قضى اليوم الأول في عملٍ عام.
يرى البعض أنهم يهود، تشتتوا وارتبطوا بالثقافة الهيلينية، لهذا دُعوا يونانيين مثل خصي كنداكة وكرنيليوس. كما كان اليهود يقدرون بعضًا من الأمم الذين يميلون العبادة لله طبيعيًا، دون معرفتهم للناموس الموسوي والأنبياء، هكذا كان الأمم أيضًا يقدرون اليهود الأتقياء ويتركونهم يتعبدون في وسطهم، بل ويسمحون لهم بحضور اجتماعاتهم الدينية قدرما يُسمح لهم. هؤلاء كانوا يحسبون غرباء في نظر اليهود.
ويرى آخرون أنهم أمميون، ففي العصور المتأخرة سمح اليهود لبعض الأمم الأتقياء أن يأتوا إلى الهيكل في العيد، وكأنهم كانوا يتنبأون عن تحطيم الحجاب الفاصل بين الأمم واليهود في المسيح يسوع. هؤلاء كانوا يقدمون إلى الهيكل للعبادة دون أن يأكلوا من الفصح.
في ميلاده اجتذب المجوس من الشرق، حيث قدموا له هدايا وسجدوا له، كما شهدوا له بطريق أو آخر في القصر الملكي وبين الكهنة ورؤساء الكهنة. وعند صلبه اجتذب اليونانيين من الغرب ليتمتعوا برؤيته. وكأنه قد جاء السيد ليضم الشرق مع الغرب، ويصير الكل رعيةً واحدةً لراعٍ واحدٍ. بميلاده وصلبه فتح طريق الإيمان للأمم كي يتمتع الكل به. صار من حق الرجل المكدوني أن يتراءى لبولس الرسول في حلمٍ ليصرخ: "أعبر وأعنا" (أع ١٦: ٩).
لم يشترك هؤلاء اليونانيون في موكب دخول السيد المسيح أورشليم، ربما لأن الموكب كان قاصرًا على اليهود، لكنهم عرفوا كيف يشتركون فيه روحيًا، حين أعلنوا شوقهم الصادق لرؤيته. وكأنهم يصرخون بلغتهم مع اليهود "أوصنا (خلصنا) في الأعالي"!
مع شدة الازدحام حول شخص يسوع المسيح لم ييأس هؤلاء اليونانيون من تحقيق شهوة قلوبهم، وهي رؤية يسوع.
* إذ اقتربوا من أن يصيروا دخلاء (أي يتهودوا) جاءوا إلى العيد. وإذ بلغهم تقريرًا عنه قالوا: "نريد أن نرى يسوع" [٢١][1270].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"فتقدم هؤلاء إلى فيلبس الذي من بيت صيدا الجليل،
وسألوه قائلين:
يا سيد نريد أن نرى يسوع". [21]
يظن البعض أن لهؤلاء اليونانيين معرفة سابقة بفيلبس، وأنهم عاشوا بجوار بيت صيدا في جليل الأمم. وربما حضروا بعض اجتماعات السيد المسيح هناك ورأوا فيلبس قريبًا منه.
جاءت رسالتهم لفيلبس تحمل تقديرًا خاصًا للسيد المسيح وشوقًا للقاء معه والحديث معه على انفراد. جاءوا إلى العيد ومع هذا لم تشغلهم عظمة بناء الهيكل ولا ازدحام أورشليم الشديد بالقادمين للعيد، ولا رؤية آيات وعجائب حتى بواسطة شخص المسيح، إنما يريدونه هو، يشتهون رؤيته والحديث معه.
للأسف حتى في الأعياد المسيحية خاصة الكبرى كالميلاد والقيامة كثير من المسيحيين ينشغلون بالعيد دون أن يشتهوا رؤية السيد المسيح، واللقاء معه شخصيًا.
يرى البعض أنهم من فينيقية أو سوريا، ربما من سكان ديكابوليسDicapolis بجوار بحيرة جنيسارت وبيت صيدا.
* انظروا كيف يريد اليهود أن يقتلوه، والأمم أن يروه.
لكن وجد أيضًا من اليهود من صرخ: "مبارك الآتي باسم الرب ملك إسرائيل".
هنا يوجد من هم من أهل الختان ومن هم من أهل الغرلة، أشبه بحائطين في بيت لهما اتجاهان مختلفان، يلتقيان معًا بقبلة السلام في الإيمان الواحد بالمسيح.
لنستمع إذن لصوت حجر الزاوية: "قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان" [٢٣]. ربما يظن البعض أنه يتحدث عن نفسه أنه تمجد، لأن الأمم يريدون أن يروه. الأمر ليس هكذا، بل رأى الأمم من كل الدول يأتون إلى الإيمان بعد آلامه وقيامته. وكما يقول الرسول: "إن العمى قد حصل جزئيًا لإسرائيل، إلى أن يدخل ملء الأمم" (رو ١١: ٢٨). فقد انتهز الفرصة عند مجيء اليونانيين الذين يريدون أن يروه ليعلن عن ملء الأمم المستقبل، ويعد عن اقتراب الساعة التي فيها يمجد ذاته والتي عند حدوثها في السماء تأتي الأمم إلى الإيمان[1271].
القديس أغسطينوس
"فأتى فيلبس، وقال لأندراوس،
ثم قال أندراوس وفيلبس ليسوع". [22]
ما أروع أن يعمل الخدام معًا، فيتقدمون معًا إلى شخص السيد المسيح يقدمون النفوس المشتاقة إلى معرفته.
ربما تشاور فيلبس مع أندراوس عما يفعلاه، لأنه كثيرًا ما سمعه يقول أنه جاء لخراف إسرائيل الضالة. فاتفقا أن يقدما الأمر للسيد المسيح.
* تقدم فيلبس إلى أندراوس بكونه سابقًا له، وأخبره بالأمر. لكنه لم يتحرك بسلطانٍ إذ سمع القول: "في طريق الأمم لا تمضوا" (مت ١٠:٥) لهذا تشاور مع التلميذ وتحدث معه، وقدما الأمر للسيد[1272].
القديس يوحنا الذهبي الفم
"وأما يسوع فأجابهما قائلًا:
قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان". [23]
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن السيد المسيح سبق فأمر تلاميذه: "في طريق الأمم لا تمضوا" (مت ١٠: ٥)، لكن إذ حان وقت الصلب انفتح الباب للأمم. لقد أتت الساعة للكرازة الأمم.
قبل السيد طلبهما، وجاء قوله: "قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان"[٢٣]، مشجعًا الأمم أن يتقدموا للتعرف عليه والإيمان به. لقد رأى السيد الحقل قد أينع للحصاد، وجاء وقت قبول الأمم في الإيمان. إنها ساعة مجد له، حيث تُفتح أبواب كنيسته أمام كل البشرية، وإن كان هذا قد جاء كرد فعل لرفض اليهود له وخروجهم من حظيرة الإيمان. هذا يتحقق بموت السيد المسيح ودفنه وقيامته كحبة حنطة في الأرض لتأتي بثمرٍ كثيرٍ.
كان التلاميذ والرسل هم بكور اليهود القادمين للإيمان به، وجاء هؤلاء اليونانيون كبكورٍ للأمم الذين يدخلون الإيمان بعد أن شق الصليب الحجاب الحاجز بين السماء والأرض، وبين اليهود والأمم.
كان لابد للسيد أن يتمجد بموته وقيامته حتى يؤسس كنيسته المجيدة من اليهود والأمم معًا. حبه ألزمه بالموت، لكي يخلص العالم الذي دمره الفساد، يغسله من خطاياه ويبرره ويقدسه ويمجده في السماء، هذه هي الحنطة الكثيرة، حصاد عمله الخلاصي.
لقد أتت الساعة التي لن يدرك أعماقها وأسرارها سوى الله نفسه؛ هذه الساعة هي ساعة المجد للآب كما للابن. لقد مضت حوالي ثلاث سنوات يقدم فيها السيد أعماله العجيبة وكلماته مع الجموع، الآن حان للبذرة أن تقع في الأرض وتدفن وتموت. جاء وقت المعصرة، فقد سبق فرآه إشعياء النبي وسمعه يقول: "قد دُست المعصرة وحدي، ومن الشعوب لم يكن أحد معي" (إش ٦٣ : ٣).
قد أتت الساعة ليبسط يديه على الصليب، ويتمم المصالحة بين الآب وبني البشر، كما يضم اليهود والأمم معًا أعضاء في جسده الواحد.
* أتريد أن تقتنع أنه تألم بإرادته؟ آخرون لا يعلمون ماذا يحدث لهم، لذلك ماتوا بغير إرادتهم، أماهو فسبق وقال: "ابن الإنسان يُسلم ويصلبوه".ألا تعرف لماذا؟"صديق الإنسان" هذا لم يمنع الموت؟ لكى لا يهلك العالم كله في خطاياه. "ها نحن صاعدون إلى أورشليم وابن الإنسان يُسلم ويصلب" وأيضًا:"تقدم صاعدًا إلى أورشليم" (مت 18:20؛ لو 28:19).
أتريد حقًا أن تعرف أن الصليب مجد يسوع؟ استمع إلى كلماته لا إلى كلماتي، فإذ كان يهوذا خائن رب البيت علىوشك القيام بالخيانة، وقد جلس على مائدته، وشرب كأس نعمته عوض الخلاص، تقدم ليسفك الدم البريء "رجل سلامتي الذي وثقت به أكل خبزي، ورفع علىّ عقبه" (مز 9:41). لم يكن يده بعد قد تركت عطية نعمته، مدبرًا ثمنًا لخيانته بموته... وإذ سمع "أنت قلت"(مت 5:26)خرج. عندئذ قال يسوع:"قد أتت الساعة ليتمجد ابن الإنسان".لترى يا عزيزي كيف عرف أن الصليب هو المجد اللائق به.
إن كان إشعياء لم يخجل من نشره إلىأجزاء، فهليخجل المسيحمنموته عن العالم؟!
"الآن يتمجد ابن الإنسان" (يو3:13)، لا لأنه لم يكن ممجدًا من قبل، بل كان ممجدًا بالمجد الذي له من قبل كون العالم (يو 5:17). كان ممجدًا على الدوام إذ هو اللَّه، والآن يتمجد حاملاً صبره.
إنه لم يسلم حياته رغمًا عنه، ولا قبل الموت قسرًا بل بموافقته. اسمع ماذا يقول؟ "لي سلطان أن أضعها، ولي سلطان أن آخذها أيضًا" (يو18:10). إننيأسلمها لأعدائي باختياري، وإلا ما كان يتم ذلك.
لقد جاء بغرض وضعه هو بنفسه أن يتألم، مسرورًا بعمله النبيل، مبتسمًا بتاجه، معتزًا بخلاص البشري،دون خجلٍ من الصليب إذ هو لخلاص هذا العالم. لم يكن إنسانًا عاديًا بل اللَّه المتأنس[1273].
القديس كيرلس الأورشليمي
"الحق الحق أقول لكم إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت،
فهي تبقى وحدها،
ولكن إن ماتت تأتي بثمرٍ كثيرٍ". [24]
مهما بلغ العالم لا يستطيع أن يدرك سرّ حصاد ثمر كثير من حبة حنطة واحدة، ولا كيف يتحول الحصاد إلى لحم ودم وعظام في أجسام البشر والحيوانات. هكذا يبقى سرّ موت المسيح وقيامته كأساس إقامة الكنيسة المجيدة فوق كل فكرٍ بشري.
لقد جاء اليونانيون ليروه، فلماذا قدم لهم مثل الحنطة؟ لقد أراد أن يؤكد لهم أنهم لا يقدرون أن يروه كما هو ما لم يعبر هو إليهم بموته وقيامته، فيدخل إلى عالمهم ويحملهم فيه. هو الطريق الذي يسحب قلوبهم إليه، يعبر إليهم، فيتحدثوا به ويعبروا معه إلى حضن الآب كثمرٍ متزايد. يصيرون "من لحمه وعظامه" (أف ٥: ٣٠).
* إن قلت وما معني قول السيد المسيح: "إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتمت فهي تبقى وحدها، ولكن إن ماتت تأتى بثمرٍ كثيرٍ"؟ أجبتك: إنه يتكلم عن صليبه، كأن السيد المسيح يقول: إن من شأن هذا الحادث أن يتحقق في الحنطة، إنها إذا ماتت تأتي بثمرٍ كثيرٍ، فإن كان هذا يحدث في البذور، فأليق وأوجب أن يكون فيّ، إلا أن تلاميذه لم يعرفوا الأقوال التي قالها.
* الحياة الحاضرة حلوة ومملوءة باللذة، لكن ليس بالنسبة للكل، بل للذين هم متمسكون بها. لذلك إذا ما تطلع أحد إلى السماء، ويرى الأمور الجميلة هناك، للحال يحتقر هذه الحياة ولا يبالي بها. وذلك كما أن جمال أي شيء يكون موضوع إعجاب من لا يرى ما هو أجمل منه، لكن إذ يظهر ما هو أفضل منه يُحتقر الأول. فإن اخترنا أن نتطلع إلى ذلك الجمال ونلاحظ سمو المملكة هناك، فإننا في الحال نتحرر من القيود الحالية، فإن التعاطف مع الأمور الزمنية هو نوع من القيود...
ماذا يقول: "إن لم تحتملوا موتي ببسالة، بل إن لم تموتوا، لا تقتنوا شيئًا"[1274]
القديس يوحنا الذهبي الفم
* صارت الحنطة في أرض يهوذا نادرة، لأن حبة القمح قد ماتت هناك، وفي بيت الأرملة الوثنية فاض الزيت كجداول[1275].
القديس جيروم
"من يحب نفسه يهلكها،
ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية". [25]
من يحب نفسه أكثر من حبه للسيد لمسيح، أو من يحب حياته الزمنية على حساب مجده الأبدي يهلك نفسه. أما من يهلك نفسه كحبة الحنطة، فيشارك السيد المسيح آلامه وموته، ممجدًا مخلصه، ينعم بالحياة الأبدية.
موت السيد المسيح غيَّر مفاهيم الموت ومعاييره كما غيَّر نظرتنا إلى الحياة، فأصبح الموت ضرورة لازمة للتمتع بالحياة المثمرة الكاملة. حيث لا موت فلا حياة صادقة. وحين يدفن الإنسان الأنا، يعلن المسيح "الحياة" ذاته فيه. وحينما يطلب الإنسان "ذاته" لا يجد المسيح له مكانًا فيه، فيفقد الإنسان مصدر حياته.
من يموت عن حياته القديمة ويُصلب عن العالم، تتجلى حياته الجديدة التي في المسيح يسوع ليختبر عربون الحياة العتيدة.
* إن سألت: وكيف من يحب نفسه يهلكها؟! أجبتك: من يتمم شهواتها الشنيعة، من يسمح لها خارج الواجب، ذاك هو الذي يحبها فيهلكها، ولهذا السبب توصينا الحكمة فتقول: "لا تكن تابعًا لشهواتك، بل عاصيًا أهواءك. فإنك إن أبحت لنفسك الرضى بالشهوة جعلتك شماتة لاعدائك" (يشوع بن سيراخ 18: 30، 31)، لأن الشهوات تحجز النفس عن الطريق المؤدية إلى الفضيلة.
وقوله "ومن يبغض نفسه في هذا العالم يحفظها إلى حياة أبدية"؛ إن قلت: وما معنى "ومن يبغض نفسه"؟ أجبتك: من لا يخضع لها، ولا يطعها متى أمرته بفعل الأفعال الضارة.
لم يقل: "من لا يخضع لها"، لكنه قال: "ومن يبغض نفسه"، لأنه كما أننا لا نحتمل أن نسمع صوت الذين نبغضهم، ولا أن نبصر وجوههم، كذلك يجب علينا أن نرجع عن أنفسنا بشدةٍ إذا أمرتنا بمخالفة وصايا الله.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* إن كنت تحب، فلتكن مستعدًا أن تُفقد. إن أردت أن تقتني الحياة في المسيح، لا تخف من الموت من أجل المسيح[1276].
* بالتأكيد إنه إعلان عميق وغريب عن قياس حب الإنسان لحياته الذي يقوده إلى تدميرها، وبغضه لها الذي يضمن حفظها! إن كنت تحب حياتك بطريقة خاطئة بالحقيقة أنت تبغضها، أما إن كنت تحبها بطريقة صالحة فإنك فيما أنت تبغضها بالحق تحبها. يا لسعادة الذين يبغضون حياتهم فيحفظونها، فلا يسبب حبهم دمارًا لها[1277].
القديس أغسطينوس
"إن كان أحد يخدمني فليتبعني،
وحيثأكون أنا هناك أيضًا يكون خادمي،
وإن كان أحد يخدمني يكرمه الآب". [26]
بعد أن قدم السيد مفهومًا جديدًا للموت وللحياة من خلال صلبه وموته وقيامته، الآن يقدم لنا مفهومًا جديدًا للخدمة. فالخدمة ليست غيرة مجردة للعمل لحساب الآخرين، إنما هي اتحاد مع الخادم الحقيقي الفريد، يسوع المسيح، ومرافقته وتبعيته في طريق جثسيماني.
إن أراد أحد أن يخدم السيد المسيح ويكرز به، يلزمه أولًا أن يتبعه، أي يتتلمذ له ويتعلم منه ويطيعه ويسلك معه طريق الصلب والدفن، ليقوم معه حاملًا ثمارًا كثيرة. ليترك الخادم ملذات العالم، متطلعًا إلى السعادة الأبدية. ليتحد مع الأبدي، فينال مجدًا أبديًا يهبه له الآب القدوس نفسه.
بهذا المفهوم الجديد يجد الخادم مكافأته في الخدمة، حيث يجد نفسه في رفقة مسيحه، يشاركه آلامه كما مجده. حقًا إن من يتمتع بالشركة مع السيد المسيح ويكرس حياته للشهادة له ينال كرامة في عيني الله أكثر مما يظن في نفسه أو في عيني الناس. "والفاهمون يضيئون كضياء الجلد، والذين ردوا كثيرين إلى البرّ كالكواكب إلى أبد الدهور" (دا ١٢: ٣). وكما يقول السيد المسيح نفسه: "أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا" (يو ١٧: ٢٤). في طريق الخدمة يجد الخادم فرصته الفريدة للحديث مع الخادم الحقيقي، يسوع المسيح. في الطريق يعلن المسيح عن نفسه وعن أبيه، فيتمتع الخادم بالمعرفة الإلهية.
من يحفظ كرم الله ويعمل فيه يكرمه الله نفسه، "حافظ سيده يكرمه" (أم ٢٧: ١٨).
هكذا حوَّل السيد المسيح أنظار اليونانيين القادمين لرؤيته إلى العمل لحساب ملكوته، إذ كشف لهم عن المجد المُعد للذين يخدمون في كرمه. يحول السيد الاشتياقات الجميلة لرؤيته إلى عملٍ جادٍ حتى يروه في مجده الأبدي وهم متمتعون معه بالشركة في المجد.
* إنه يتحدث بخصوص الموت ومتطلبات من يتبعه وذلك بالأعمال، فيحتاج من يخدم أن يتبع على الدوام من يُخدم..."إن أراد أحد أن يأتي ورائي فلينكر نفسه ويحمل وصليبه ويتبعني" (مت 16: 24) أي يقول: "أن يكون دومًا مستعدًا للمخاطر والموت والرحيل من هذا الموضع". بعد أن أخبر عن المتاعب قدم المكافأة. من أي نوع؟ " التبعية له، والوجود أينما وُجد هو، مظهرًا أن القيامة تتبع الموت"[1278]
* ولكن أين المسيح؟ في السماوات. لذلك ليتنا حتى قبل القيامة ننقل نفوسنا وعقولنا إلى هناك. لماذا يقول ذاك الذي يخدم المسيح "يكرم الآب" ، ولم يقل: "أنا أكرمه"؟ وذلك لأنهم لم يكونوا بعد قد صار لهم التفكير السليم بخصوصه، لكن كان لهم فكر عظيم من جهة الآب[1279].
القديس يوحنا الذهبي الفم
* أية كرامة يمكن أن تكون أعظم من أن يكون الابن المتبني مع الابن الوحيد؛ حقًا ليس بأن يرتفع إلى الألوهة بل شريكًا في الأبدية؟![1280]
* لقد أراد منا أن نفهم كمن يقول: من لا يتبعني لا يخدمني. لذلك فإن خدام يسوع المسيح هم الذين لا يطلبون ما لأنفسهم، بل ما هو ليسوع المسيح (في ٢: ٢١). لأن "فليتبعني" معناها: ليسلك في طرقي، وليس في طريقه هو. وكما هو مكتوب في موضع آخر: "من قال إنه ثابت فيه ينبغي أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضًا" (١ يو ٢: ٩)[1281].
* كل واحدٍ هو خادم للمسيح بنفس الطريقة كما أن المسيح هو خادم. ومن يخدم المسيح بهذه الطريقة سيكرمه الآب بالكرامة الرائعة أن يكون مع ابنه، فلا يُعوزه شيء لسعادته إلى الأبد[1282].
* حينما تسمعون أيها الاخوة: "حيث أكون أنا هناك يكون خادمي"، لا تظنوا فقط في الأساقفة والكهنة الصالحين. بل لتخدموا أنتم أيضًا بطريقتكم المسيح، بحياتكم الصالحة، وتقديم العطاء، والكرازة باسمه وتعاليمه قدر المستطاع...[1283]
القديس أغسطينوس